لقاء المؤرخ عبد الله حجار ضمن برنامج اجراس المشرق ( قناة الميادين )
حلب أقدم مدن العالم المأهولة. وبالإذن من جان سوفاجييه، إنها أغنى مدن العالم بالتراث الإسلامي. ففيها أحد أقدم مساجد المسلمين وأهم أربعة محاريب في الكون، وفيها أقدم الكنائس: كنيستان منها في قلعتها وفي محيطها، سمعان العمودي ومار مارون في براد، وفيها أهم الخانات والتكايا والزوايا والحمّامات والأسواق.
شيخ مؤرّخي حلب، الأستاذ المهندس عبد الله حجّار، ضيف عزيز على “أجراس المشرق” من مكان مُشرق ونديّ في حلب التي تأبى الموت. من حديقتها، إحدى أكبر وأقدم حدائق مدن المشرق، سنعرّفكم به:
التقرير
وُلد عبد الله حجّار في حلب عام 1939، وفيها ترعرع وتعلّم وتخرّج من جامعتها مهندساً مدنياً عام 1963. وشُغف بالتاريخ والآثار باكراً على الرغم من عمله في هندسة الطرق والجسور طيلة ثلاثين عاماً، وكمهندس مشرف ومدقّق لعشرين عاماً. فصار عضواً ومستشاراً للفترات الكلاسيكية في جمعية العاديات منذ عام 1970. وحصل على دبلوم آثار من معهد التراث في جامعة حلب عام 1988.
درّس مادة الطرق والمواصلات، وكتب مقالات خاصة بذلك. وانتُخب عضواً في مجلس مدينة حلب لدورتين ورئيساً للجنة السياحة والآثار والثقافة في المجلس، وعضواً في لجنة حماية حلب القديمة، ورئيساً للّجنة الفنية، وساهم في تسجيلها في قائمة التراث العالمي عام 1986.
له كتاب معالم حلب الأثرية المترجَم إلى اللغات الفرنسية والإنكليزية والألمانية، وكنيسة القديس سمعان العمودي
وآثار جبل سمعان وحلقة وإضاءات حلبية وتاريخ ومعالم وتراث وآثار قورش. وترجم كتاب أرمينيا جذوري لأسغيك جمكرتان، وثلاثة كتب معدّة للطبع هي: إضاءات حلبية – الجزء الثاني، وأصدقائي علماء الآثار، والهندسة والمهندسون بحلب بالاشتراك مع المهندس محمّد سمير المدرّس. ويعمل على إنجاز أربعة كتب أخرى إضافة إلى العديد من المقالات والمحاضرات في التاريخ والآثار والتراث.
أعطى علمه وحياته وإنتاجه لمدينته. لذلك أطلق عليه الحلبيون لقب “شيخ مؤرّخي حلب”.
غسان الشامي: أهلاً بكم. أهلاً بك أستاذ عبد الله حجار. يشرّفنا في “أجراس المشرق” أن تكون ضيفنا. سأذهب معك منذ البداية بعد هذا العمر المديد الذي أتمنّاه مديداً جداً: ما الذي أتى بك إلى التراث والآثار من الهندسة؟
عبد الله حجار: شكراً لهذه الاستضافة الجميلة في هذا الطقس الجميل وفي ربوع حلب التي نحبها من كل قلبنا. موضوع الآثار كنت أعتبره نوعاً من الفيروس دخل فيّ. تخرّجت عام 1963 مهندساً مدنياً من حلب، وطلبت تعييني في الرقّة كي أشرف على مشروع قمت بدراسته، جسر على نهر الفرات، كي أرى كيف يتم التنفيذ. وهناك تعرّفت عام 1964 إلى عالِم آثار هو البروفسور أندريه فينيه، عالِم اللغات الأكادية في جامعة بروكسل …
غسان الشامي: هذا كان ينقّب في العراق.
عبد الله حجار: كان في العراق. في طريق عودته إلى حلب، قام بتقديم محاضرة لجمهور الرقّة، وكان معنا الدكتور عبد السلام العُجَيلي –رحمه الله–.
غسان الشامي: رحمة الله عليه.
عبد الله حجار: فأبدى لنا وأرانا لوحَي رُقُم فخّارية مسمارية اشتراهما من متحف بغداد، نسخة طبق الأصل بدينار لكل واحد، فيهما نظرية طاليس ونظرية فيثاغورس. هذان الإسمان، كل واحدة مع برهانها؛ أي مربّع الوتر، مجموع مربّعَي الضلعين الآخرين، وتشابه المثلثات. قال: في العالم هذان الإسمان معروفان عند اليونان في القرن الرابع أو الخامس قبل الميلاد. بينما هذه موجودة عندكم مع البرهان لكل منهما من قبل 1,500 سنة، أي في الألف الثاني قبل الميلاد. لذلك، أتمنّى أن تدرسوا تاريخكم.
غسان الشامي: حتى الآن الناس لا يعرفون هذا. تفضّل.
عبد الله حجار: قال لهم: لذلك ادرسوا تاريخكم. هذا الفيروس الإيجابي للآثار بدأ منذ ذلك اليوم. ومعه ذهبت ورأيت الرصافة، وفي الوقت نفسه ذهبنا ورأينا بعض التلال الأثرية، وأتى في ما بعد ونقّب في تلال سدّ الفرات التي يغمرها سدّ الطبقة، وكان في تلّ قنّاص ورأى أموراً جديدة، وكان محبّاً رائعاً للّغات الأكادية. وهو من الأشخاص الذين درسوا الرُقُم الفخّارية التي وُجدت في ماري مع البروفسور جورج دوسان التي رآها في حينها أندريه بارو في تلك المنطقة وبيّنت الدور الحضاري الرائع لسوريا في تلك الفترة.
غسان الشامي: أنت إذاً عرفت حلب منذ صحوة الاهتمام بالتراث. ما هو المكشوف وما هو المخبّأ أو المخبوء من تراث حلب؟
عبد الله حجار: الواقع، كما تفضّلت في المقدمة، أن مدينة حلب موجودة منذ الألف الثالث قبل الميلاد وهي من أقدم المدن في العالم التي ما زالت تُسكَن بمليونَي نسمة. بابل أو غيرها انتهت وبادت. أمّا هي فما زالت حيّة حتى الآن. ذُكرت في الأصل باسم إيبلا، رُقُم إيبلا الفخّارية، 16 ألف رقيم فخّاري هناك، تبيّن أن معبد الإله حَدَد في قلعة حلب مذكور منذ 2250 قبل الميلاد. في مدينة ماري ذُكرت باسمها الحالي بشكل مقطعي: حَ لَ أب، حلب، عام 1800 قبل الميلاد. ثم صار اسمها مملكة يمحاض، ذُكرت أهميتها. وصار اسمها في الفترات الكلاسيكية حين نتحدّث عن السلوقية والرومانية والبيزنطية بـرويا، أخذت هذا الإسم. وحين جاءت فترة دخول العرب إلى حلب من باب “سلمن” من باب أنطاكية عام 636 استعادت إسمها القديم حلب.
واستمرت بهذا الاستمرار الرائع. موقعها الاستراتيجي الرائع كان…
غسان الشامي: هل لا يزال هناك جزء كبير مخبوء من تراث حلب تحت أرضها مثلاً؟
عبد الله حجار: طبعاً. الأمر الرائع الذي تبيّن حالياً في قلعة حلب. تم إجراء حفريات.
غسان الشامي: قبل الأزمة.
عبد الله حجار: نعم. عام 1927 رأوا لوحاً واحداً، لوح …، عبارة عن لوح بازلتي، تقريباً متران بمتر ونصف المتر، لشخصين مجنّحين في الألف الأول قبل الميلاد. وأجروا تنقيبات رسمية منذ 1996 حتى 2006، بعثة ألمانية سورية مشتركة، كايل كولمايار، فاكتشفوا معبد الإله حدد أو المعبد الحِثّي الموجود منذ الألف الثاني قبل الميلاد والألف الأول قبل الميلاد. ووُجد فيه نحو 34 لوحاً مع صوَر إنسانية وحيوانات وسواها مع كتابة حثّيّة موجودة. إذاً هذه وثيقة مادية على قِدَم مدينة حلب.
غسان الشامي: في الفترة الحثّيّة.
عبد الله حجار: هذه الألواح في الفترة الحثّيّة. لكن كان هناك منذ الألف الثاني قبل الميلاد. للأسف لم يتمكنوا من الاستمرار في التنقيب لأن وجود المدرج الروماني، نسميه الروماني، وضعوه عام 1980 بناءً على طلب المحافظ آنئذٍ لتكون هناك حفلات في القلعة، هذا منعهم من أن يستمروا في الجهة الشرقية للتنقيبات. وإلّا ربما كانت ستظهر معهم رُقُم مسمارية قديمة قدم مدينة إيبلا وماري.
غسان الشامي: إذاً، إذا رجعنا إلى حلب في الألف الثالث قبل الميلاد، وهذا دليل على أنها إحدى أقدم مدن العالم المأهولة، بماذا امتازت في تلك الفترة؟ ما هي مزاياها؟
عبد الله حجار: روعة المنطقة هي موقعها الاستراتيجي. حين نتحدّث عن طريق الحرير، أو المفروض طريقا الحرير أو طرق الحرير: لدينا طريق يأتي من جهة سمرقند، برّي، ويكمل إلى حلب ويتابع إلى أزمير والبحر المتوسّط وأوروبا. والثاني يأتي من الخليج العربي الفارسي إلى تدمر إلى حلب ويتابع إلى أوروبا. إذاً، على طرق التجارة العالمية موجودة.
غسان الشامي: إذاً هو طريق للتجارة الكاملة وليس فقط الحرير.
عبد الله حجار: طبعاً، ليس فقط طرق الحرير. وهذا كان طريقاً للتجارة العالمية وتبادل الأفكار كذلك، وليس فقط طريق الحرير أو كذا. الأفكار كلها كانت عن طريق الطرق تنتقل في الألف الثاني والألف الثالث قبل الميلاد. القوافل، يقول “آرنول توينبي”، لديه مقولة يقول فيها: 50 بالمئة من قوافل الحرير كانت تأتي إلى حلب والـ50 بالمئة الأخرى كانت تذهب إلى أفغانستان. من هنا نرى أهميتها، كانت حضارياً بوتقة تفاعل للمنطقة كلها وخصوصاً وجودها بين القارات الثلاث: آسيا وأفريقيا وأوروبا بالنسبة لهذا الموقع التاريخي الرائع.
غسان الشامي: تكلّمت على مملكة يمحاض، على الآرامية، مملكة آرامية، حلب الآرامية، برأيك من أين تبتدئ؟ ماذا بقي منها؟
عبد الله حجار: الواقع أننا حالياً لم نجد أموراً كثيرة كوثائق مادية في حلب من الفترات الآرامية.
غسان الشامي: … المادي قليل.
عبد الله حجار: فعلاً. كشيء مادي، وُجد في باب النيرب تمثال أو تمثالان موجودان في الحديقة الداخلية للمتحف في حلب.
لا يوجد شيء واقعي كبير جداً ولا كتابات. وُجدت بعض كتابات آرامية في السفيرة التي تقع 25 كيلومتراً جنوب حلب موجودة في متحف دمشق. لكن ليست لدينا وثائق كثيرة. لكن الشيء الرائع هو بالنسبة للتراث الـلامادي هي اللغة المستخدمة في حلب. حتى الآن فيها نوع من الإمالة. اللغة العربية التي نتكلّمها، العربية الدارجة فيها الإمالة.
غسان الشامي: الكسرة.
عبد الله حجار: “كتب كتِابه”، بدل كتابه يقولون “كتب كتِابه” حين يتزوج. هذا التعبير والكلمات الموجودة، كثير منها… مثلاّ كلمة “حبالتي عليه” أي واأسفاه. هذه تعابير كلها في الأصل كلمات سريانية مستخدمة من الفترة الآرامية كانت موجودة.
حتى الآن موجودة لدينا أمثلة كثيرة. من الجملة في الأعراس أو غيرها حين يقولون: ………… هذه كلها تفاسير لكلمات هي في الأصل سريانية معادة ومكرّرة تُستخدَم حتى لدى المسلمين والمسيحيين في حلب. إذاً، في دمنا موجودة اللغة الآرامية عن طريق ما يُسمّى بالتراث الـلامادي الموجود في لغتنا الحقيقية المحكية.
غسان الشامي: إذا ذهبنا إلى الفترة اليونانية، الفترة الإغريقية، والفترة الرومانية، كيف يمكن أن تضع حلب في السياق التاريخي في هذه الفترة؟
عبد الله حجار: الواقع أن تأثيرها في حلب طبعاً دخل. كما نعرف نحن، أتى الإسكندر المقدوني عام 333 قبل الميلاد، وهذه الفترة يُسمونها الفترة الهلنستية في سوريا، هي من 333 بعد وفاته، قادته كلٌّ منهم أخذ قطعة من الإمبراطورية الكبيرة. سلوقوس نيكاتور أسّس في سوريا وخصوصاً في العراق ما يُسمّى بالدولة السلوقية.
غسان الشامي: وبطليموس في مصر.
عبد الله حجار: نعم، بطليموس وغيره، ليسيماخوس وإلى آخره. منذ ذلك الوقت، ومن بعدهم أتى الرومان عام 64 قبل الميلاد، وبعدهم أتى …
غسان الشامي: موقع حلب في هذه الفترة.
عبد الله حجار: ففي الفترة هذه، حلب كانت تُعتبَر كأنها صارت مستوطنة يونانية في هذه الفترة. والتابع لهذه الفترة كما يذكر سوفاجيه هو الشارع الرئيسي المستقيم من باب أنطاكية إلى القلعة. هذه المنطقة هي أقدم ما أنشئ في مدينة حلب، والتخطيط الذي يُسمّونه هيبوداموس، الشطرنجي، بشكل شارع مستقيم وشوارع متعامدة متقطعة إلى “blocks” معيّنة. وهذا ما في ما بعد يصبح أسواق المدينة الموجودة منذ القرن الرابع قبل الميلاد. فمن الأشياء الموجودة فعلاً هي هذه الفترة الهلنستية كما نسميها، التي أعطت طابعها لمدينة حلب في القرن الرابع قبل الميلاد في التخطيط الشطرنجي الموجود في القسم هذا من المدينة.
غسان الشامي: إذا أخذنا التراث المسيحي في حلب، أين نجده اليوم؟
عبد الله حجار: الواقع أن بداية المسيحية في حلب يقال إنها بدأت عن طريق سمعان الغيور، أحد الحواريين أو رسل السيّد المسيح. عن طريقه كان تبشير حلب أي منذ القرن الأول للميلاد. من بعده هناك شخصيات كبيرة مرّت في حلب، منهم الأسقف أكاكيوس.
غسان الشامي: الذي عُرّب إلى أقاق.
عبد الله حجار: ومنهم يقولون جامع القيقان حالياً في العقبة، ربما لأنه كانت هناك كنيسة، وهذه يذكرها بشكل خاص الأب اغناطيوس ديك –رحمه الله– في حلب، وهو من مؤرّخي حلب في الفترات المسيحية. يذكر أنه ربما أقاق أو أكاكيوس، ولذلك صار اسمه جامع القيقان الموجود في العقبة. وهناك أيضاً منطقة موجودة كان فيها حتى معبد حثّي قديم منذ القرن الرابع عشر قبل الميلاد، وله كتابة حتى الآن في جدار الجامع الموجود حالياً في المنطقة. إذاً منذ القرن الرابع كان موجوداً هذا الشخص في هذه الفترة، ويقال إنه كان يأتي ثيودوريتس أسقف قورش الشهير الذي كان يعرف اللغة اليونانية والسريانية، كان يعظ أيام الصيام الكبير في حلب. كان يدعوه أكاكيوس لتقديم عظات لأهالي حلب من قورش.
غسان الشامي: هو الذي كتب تاريخ الرهبان.
عبد الله حجار: تاريخ … الديني للرهبان. حكى عن مار مارون، عن مار سمعان، وعن 37 شخصاً، وبينهم حتى مارانا وبعض السيدّات: مرتا ومارانا.
غسان الشامي: وكانوا في حلب.
عبد الله حجار: كانوا قريبين من باب أنطاكية في حلب.
غسان الشامي: أول ناسكتين.
عبد الله حجار: أول ناسكتين، صحيح. إذاً، من هنا، هذا الشخص كان له فضل أنه عرّفنا بأشخاص عن ثقة: إمّا هو تعرّف إليهم شخصياً أو أحد قريب منهم حكى له عنهم. لذلك هي أمور ثقة. في هذه الفترة كان قديماً جداً دورها التاريخي. أمّا إذا تحدّثنا عن وثائق مادية موجودة، معروف حتى، وهذه ظهرت حديثاً حين رمّموا الآن مؤسسة الآغا خان للثقافة، كانت ترمّم محيط القلعة وداخل القلعة؛ ترميم وتنظيف وأشياء رائعة أمّنتها، وصارت لدينا قاعة أيوبية كبيرة اكتشفتها حديثاً ورمّمتها.
غسان الشامي: ولكن أيضاً أنا أريد أن أسألك عن الكنائس المسيحية الأولى في حلب والتراث المادي لها.
عبد الله حجار: هذا التراث المادي انكشف مع الآغا خان. وفيما كانوا يعملون في الترميم شاهدوا حجراً هو نجفة باب مكتوبة باليونانية وعليها الـألفا والأوميغا والصليب ومؤرخة من 496، وكتابة “المجد لله” إلى آخره. وكانت عبارة عن أشياء نعرفها من المدن المنسية، عادةً أحد المدخلين الجنوبيين لبازيليك، لكنيسة موجودة في القلعة. ومن المعروف طبعاً، يذكر لنا ابن بطلان، وهذا كان في الـ1084 رحّالة مرّ في حلب وكتب رحلته، يقول إنه كانت لدينا كنيستان في القلعة. وربما هاتان الكنيستان تحوّلتا في ما بعد إلى الجامع الأسفل وجامع إبراهيم الأعلى الموجودين حالياً.
غسان الشامي: وغيرها، هل هناك كنائس أخرى؟
عبد الله حجار: طبعاّ. في الوقت نفسه، نحن نعرف أن لدينا أربع كنائس شهيرة كانت، يقولون لنا، وفعلاً هذه يجب أن نذكرها بالنسبة لحلب أننا نعرف الكنيسة العظمى التي كانت، وهي لاسم العذراء كما يذكر المطران نيوفيطس إدلبي، له كتابة عن هذا الموضوع، صار اسمها المدرسة الحلوية. هي في الأصل كانت الكنيسة العظمى في القرن الخامس الميلادي. وفعلاً تيجان أعمدتها من نوع أوراق الخرشوف … … تشبه كنيسة سمعان العمودي المائلة مع الريح مرة إلى اليمين ومرة إلى اليسار.
لذلك، من الفترة نفسها، في حديقة هذه الكنيسة بُني الجامع الأموي على إسم النبي زكريا مثلما هو معروف. وكان يقال، وفعلاً هذه مذكورة عند المؤرّخين، كان يأتي المؤمن المسيحي والمسلم، يدخل المسيحي إلى اليمين. عام 715 تأسّس الجامع الأموي. وتلك موجودة سابقاً من القرن الخامس. ظلّوا يصلّون سوية حتى 1124 ميلادي.
غسان الشامي: المسيحيون والمسلمون.
عبد الله حجار: المسيحيون والمسلمون. المسيحيون يدخلون إلى الكنيسة العظمى، والمسلمون يصلّون في الجامع الأموي.
عام 1124 هاجم الفرنجة الصليبيون بمساعدة دُبَيس بن صدقة حلب، لم يتمكنوا من دخولها لقوة وحصانة دفاع أسوارها، فشوّهوا قبور المسلمين في قبور الصالحين ومشهد الحسين. انتقاما ًمنهم، القاضي ابن الخشّاب حوّل أكبر أربع كنائس إلى مساجد عام 1124.
غسان الشامي: أي “طلعت برأس” مسيحيي حلب.
عبد الله حجار: “طلعت برأسهم”. ماذا فعلوا هم إذا كان أولئك خرّبوا وشوّهوا قبور المسلمين خارج الأسوار؟
غسان الشامي: ذلك كان الزمان، نعم.
عبد الله حجار: فتحوّلت الكنيسة فصارت مسجداً، وحوّل نور الدين زنكي الكنائس الأربع حين أتى في القرن الثاني عشر، عام 1156، إلى مدارس فقهية.
غسان الشامي: الكنائس الأخرى الجديدة في حلب، كيف…
عبد الله حجار: الأمر الرائع بالنسبة للكنائس الجديدة المعروفة، حتى إن لدينا من الكنائس القديمة التي لا يذكرونها كثيراً أحياناً، حين كانوا يبنون كنيسة مار مخايل في العزيزية أمام باب أنطاكية وهذه المنطقة بالذات عند ساحة الحرية مكان تمثال أسطاك الحمصي، رأوا فسيفساء كنيسة من القرن الخامس الميلادي. يطلب الوجيه في حلب إذناً ليضعه في بيته، والد فتحي أنطاكي وجورج أنطاكي، ويضعها عنده. إذاً كان موقع كنيسة، لا نعرف. حين أتوا وبنوا كنيسة جديدة، مار مخايل، عام 1934 تبيّن وجود كنيسة في هذه المنطقة. متى صارت لدينا كنائس في منطقة الجديدة؟
غسان الشامي: فقط للمشاهدين، دائماً أي مكان جديد كان يُسمّى الجدَيدة أو كان يُسمّى حدّاثة أو حدشيت. هي تعبير أن الناس ينتقلون من مكان إلى آخر. الجدَيدة في حلب؟
عبد الله حجار: صحيح. موضوع الجديدة في حلب، يذكر لنا ابن الشحني، وهذا مؤرّخ كبير في حلب، وكان يوجد مدرّس في المدرسة الحلوية عام 1421، يقول: وأصبح هناك حيّ جديد للنصارى خارج السور الشمالي للمدينة وسُمّي الحارة الجديدة.
من الجديدة الجدَيدة.
غسان الشامي: هذه الكسرة الحلبية.
عبد الله حجار: إذاً هذه صارت خارج الأسوار. بعدما جاء تيمورلنك ودمّر مدينة حلب، النصارى في كل حلب هربوا إلى الريف. لمّا ذهب عادوا فاختاروا أن يستوطنوا هذه المنطقة خارج الأسوار. لذلك، في هذه المنطقة تأسّست من جديد الكنائس والمنطقة، وهو يقول لنا: أصبح هناك حيّ للنصارى خارج الأسوار أي خارج شارع الخندق حالياً وفندق شيراتون كما تعرفون في هذه المنطقة، وحدودها الغربية كانت شارع التلل. ما هو شارع التلل؟ عندما أصبح لدينا الزلزال المدمّر الكبير عام 1822، البيوت التي هُدمت أخذوا كمزابل ركام وكانوا يضعونها على شكل تلل خارج أسوار المدينة. هذه المنطقة تمت تسويتها وجعلوها شارعا سُمّي شارع التلل، مثل شارع الخندق.
غسان الشامي: سنذهب إلى فاصل. أعزائي، فاصل ونعود إلى الحوار مع الأستاذ عبد الله حجّار من الحديقة العامة الكبرى في مدينة حلب. أنتم تسمعون بعض الأصوات، ولكن هذا من طبيعة الحال في هذه المدينة المتألمة. انتظرونا بعد الفاصل.
المحور الثاني
غسان الشامي: أهلاّ بكم. سنذهب إلى تقرير عن أسواق حلب وماذا حلّ بها لأن الأستاذ عبد الله حجار تكلّم على هذه الأسواق بعض الشيء. تقرير ونعود إلى الحوار مع الأستاذ عبد الله حجار:
التقرير
الأسواق التي كانت ملأى بالحياة طيلة 2,300 عام دُمّرت وأُحرقت، ولا تزال تتعرّض لسقوط جرار الغاز ومدافع جهنم.
أسواق حلب التي تُعَدّ أطول أسواق مسقوفة في العالم بطول 12 كيلومترا والتي امتازت عبر العصور، باتت نهباً للنيران.
بدأت السوق في “الأغورا الفرم” غرب الجامع الأموي حاليا ليتداول الناس ما يهمّهم. وقام في جنوبها الشارع المستقيم بين السفح الغربي للقلعة شرقاً وباب أنطاكية غرباً بطول 750 متراً. وامتدّت الأسواق حوله وبين الشوارع الموازية على عرض 350 متراً.
أحرق “نفقورو فوقاس” حلب وأسواقها في القرن العاشر، ثم قامت وازدهرت، وكذلك فعل هولاكو بها وبحلب عام 1260.
ثم عادت وازدهرت حتى دمّرها تيمورلنك عام 1400، لتعود وتُبنى وتزدهر وتتطوّر خلال الفتح العثماني. فانتشرت الأسواق والخانات ووصل إلى الجديدة وسواها.
شغلت الأسواق مساحة 16 هكتاراً شملت ألفي مخزن على الشارع الرئيس وأربعة آلاف مخزن توزّعت على 37 سوقاً و15 خاناّ وعشرات القيساريات. واخترقت الأسواق النوافذ لتأمين الإنارة والتهوئة، ورُصفت بالحجارة البازلتية، وامتازت بالاختصاص مثل سوق القماش والجوخ والزرك والعطّارين والحبال والذهب. وكانت تغصّ بالحركة والنشاط والسياحة، وكانت مقصداً لـ40 بالمئة من أهل حلب وحدها للتبضّع إضافة إلى الريف كله.
يراهن الحلبيون على أنهم في غضون عام بعد استتباب الأمن سيعيدون بناء الأسواق لتنهض من جديد.
غسان الشامي: أهلاً بكم. بعد هذا التقرير أعود لسؤالك عن أسواق حلب بعدما دُمّرت وأُحرقت. هذه الأسواق كيف تصفها؟
عبد الله حجار: الواقع أن شرايين حلب هي في أسواقها وخصوصاً في هذه المنطقة المحدودة التي يسمّونها المدينة بين باب أنطاكية وقلعة حلب، سوق الزرب وباب أنطاكية، 750 متراً طول. هذا كان الشارع المستقيم من أيام السلوقيين. ثم صارت هناك شوارع متوازية له: 750*8 = ستة كيلومترات، و20 واحداً متعامدة معها، كل واحد 300، أي ستة كيلومترات أخرى.
12 كيلومتراً فيها أكثر من أربعة آلاف دكان وحانوت وإلى آخره. حتى الآن، قبل أن حصلت هذه الأحداث، 40 بالمئة من سكان حلب كانوا يذهبون كي يتسوّقوا الأغراض التي يريدون من منطقة المدينة، من أقمشة، حتى البهارات، سوق العطّارين. كانت لدينا 37 سوقاً و68 خاناً. هذه أذكرها من أيام شيفالييه دارفييه، مذكورة من القرن السادس عشر حتى الآن. كانت هي مركز المدينة الأساسي. طبعاً المركز في ما بعد انتقل من هذه المنطقة وأتى إلى الجديدة ثم إلى العزيزية ومناطق أخرى. لكن هذه المنطقة الحيوية وخصوصاً بمدارسها وبجوامعها الموجودة، والأمر المعروف، وكلمة حق تقال إنه بالنسبة لأيام العثمانيين…
غسان الشامي: سآتي إلى هذه الفترة. ولكن قبل أن نصل إلى الفترة العثمانية أريد أن أسألك عن الفتح العربي لحلب. ما هي تبدّيات المعمار العربي، الأثر العربي في المدينة؟
عبد الله حجار: الواقع في حلب، وروعتها، وهذه مناسبة كي نذكرها، تعرفون أنه سنة 2006 اختيرت حلب، احتُفل بعاصمة الثقافة الإسلامية، كانت أول مدينة بعد مكّة المكرّمة اعتُبرت حلب بين كل مدن العالم، أصفهان وغيرها… لماذا؟ لأهميتها بالمعالم العربية الإسلامية الموجودة فيها. لدينا ليس فقط الجامع الأموي. أول ما دخل المسلمون إلى حلب من باب أنطاكية، هناك جامع الشعيبية أو جامع التروس أو إسمه جامع باب أنطاكية أو جامع الغضائري، له خمسة أسماء، هناك سجدوا أنه فُتحت سلماً وليس بالحرب. إذاً هذا جامع من أيام عمر بن الخطّاب، من أول الفتح. لدينا، كما قلنا، جامع بالنسبة للجامع الأموي من الفترة الأموية. لدينا في الفترة الأيوبية، نور الدين زنكي، لدينا بيمارستان النوري. في الفترات العربية الإسلامية المختلفة حتى السلجوقية مئذنة الجامع…
غسان الشامي: أنا أقصد فترة الفتح العربي الأول.
عبد الله حجار: لدينا مثلاّ قبور الصالحين، حين نخرج من باب المقام، إسمه المقام لأنه كان يؤدّي إلى مقام إبراهيم الخليل وفيه قبور الصالحين. هذا التعبير لأنه بداية الفتح العربي الإسلامي لهم قبور من أوائل الفتح العربي من القرن السابع حتى الثالث عشر، لهم قبور في منطقة الجنوبية في مقبرة الصالحين. وكثيرون من أهالي حلب وخصوصاً القدامى يتمنون أن يُدفنوا في قبور الصالحين في هذه المنطقة. وهناك موجود مقام وفيه دعسة رجل يقولون إن إبراهيم الخليل كان هناك، كتعبير طبعاً.
غسان الشامي: كتعبير ولكن ليس كعلم آثار.
عبد الله حجار: ليس لها أساس من الصحة.
غسان الشامي: حلب الأموية والعباسية؟
عبد الله حجار: بالنسبة للأمويين، كما قلنا، أراد سليمان أن يضاهي بالجامع الأموي…
غسان الشامي: سليمان بن عبد الملك.
عبد الله حجار: أخوه الوليد بن عبد الملك بنى على اسم يحيى أو يوحنا المعمدان جامع دمشق. أراد أن يضاهيه فعمل مثله.
طبعاّ هذا كان رائعاّ بهذه الروعة مثل دمشق وبهذا العلوّ. لكن أيام العباسيين هُدم غير مرة الجامع الأموي ومدينة حلب. بالمناسبة، لو كان بألم بسبب الموجود حالياً، نستطيع أن نذكر أن حلب مرة عام 540 أيام الفرس هُدمت وخُرّبت، ومنها أكملوا وقطعوا الشجر وخرّبوا أنطاكية التي كانت العاصمة. ومرة عام 962 أيام سيف الدولة الحمداني “نكفور فوقاس” أيضاً هدم مدينة حلب. المرة الثالثة عام 1260 جاء هولاكو. المرة الرابعة جاء تيمورلنك وهدم مدينة حلب. والهدم الكبير حصل أيام الزلزال المدمّر الذي يُذكر دائماً عام 1822، وهو أن ثلثي بيوت حلب، ومنهم يقولون 15 ألفاً وآخرون يقولون 20 ألف قتيل قُتلوا في الزلزال الذي حصل في تلك الأيام. ولذلك صارت لدينا منطقة في حلب الجديدة اسمها حي الكَتّاب أو المشارقة التي هي غرب نهر قويق عند باب أنطاكية، بُنيت فيها البيوت مع جدران عبارة عن جدران من خشب بينها تراب من أجل أن تقاوم الزلازل في حال وجودها.
غسان الشامي: أنت قاربت الفترة السلجوقية والمملوكية. هذه الفترة بماذا امتازت بفن العمارة؟
عبد الله حجار: بالنسبة لفترة المماليك بشكل خاص، كان معروفاً عنهم أنهم طوّروا مسألة المُقَرْمَصات عند المداخل في الأبواب. كانت لديهم فخامة في الواجهات. مثلاً جامع الأُطروش الذي كان مملوكياً من عام 1400، لدينا جامع الطَوائي أيضاً من تلك الفترة. في الفترة الأيوبية السابقة، ولدينا أمور كثيرة، أهم أمر حين نذكر في الفترة الأيوبية أن الضيفة خاتون، السيّدة التي هي زوجة الظاهر غازي، وكانت تعتزّ بأنها الوحيدة التي تستطيع أن تقول، ولا توجد أخرى تشبهها، كانت زوجة ملك وأم ملك وابنة ملك. وهي التي بنت، كما نعرف، جامع الفردوس الذي فيه ثاني أحلى محراب في العالم بعد جامع قرطبة.
غسان الشامي: 400 عام من الوجود العثماني، من الاحتلال العثماني. كيف تصف حلب طيلة الأربعمئة عام؟
عبد الله حجار: الواقع أن 400 عام أيام العثمانيين، نحن حين نذكرها من الناحية العمرانية، حلب ازدهرت نسبياً لأنها أيام المماليك العاصمة كانت في القاهرة، وهي الحدود الأخيرة لمملكة المماليك. بينما حين صارت الإمبراطورية العثمانية صارت كأنها في القلب، فصار هناك توسّع كبير.
غسان الشامي: لذلك الآن عيون العثمانيين الجُدد عليها.
عبد الله حجار: هذا هو، لأن المرء حين يتحدّث وبألم، نرجع إلى التاريخ والسياسة أن سليمان شاه كيف أصبح مسمار جحا. أصرّوا عليه أيام الانتداب الفرنسي أن يظلّ في أرض ويُرفع علم تركي. عام 1921 لم يكن مصيرنا بيدنا أيام الانتداب الفرنسي. فُرضت علينا هذه المسألة.
غسان الشامي: نعود إلى الحقبة العثمانية.
عبد الله حجار: الحقبة العثمانية، الواقع أنه صار فيها ازدهار عمراني بالنسبة لمدينة حلب؛ لأن مدينة حلب كانت تُسمّى مدينة الوقف. كان أيّ واحد يعيّنونه في حلب والياً، يبقى سنتين أو ثلاثاً، وفي النهاية إمّا يقطعون رأسه… دفع حتى يأخذ هذا ويريد أن يلمّ مال الناس ويذهب فلا يبقى له شيء. فكي يبقى له ذكر، كان يبني جامعاً ويضع أوقافاً لهذا الجامع ألّا يأتوا إليها فتبقى له ولأهله سواء مات أو نقلوه. فحلب في الواقع، إذا نظرنا إلى الشارع المستقيم من باب أنطاكية إلى سوق الزرب، في القسم الشمالي منه كانت هناك أبنية قائمة قبل العثمانيين. حين أتوا عام 1516 بعد معركة مرج دابق، أول جامع صار عندنا هو جامع خسرو باشا، الخسروفية أمام القلعة. وهذا كان من عمل المعمار سنان المشهور. وبقي فيه أسبوعين يشرف على البناء فيه.
كان هذا الكلام عام 1537 ميلادية، خسرو باشا كان موجوداً، وهنا صارت الأوقاف التي بنيت وُضعت فيها. صار لدينا جامع العادلية عام 1555 أو 1556، إلى جانبه البهرمية، ولدينا جامع الأميري، وصارت لدينا جوامع في القسم الجنوبي للشارع المستقيم. وكل جامع كان يبنى، فيه جماعة يدرّسون وجماعة يدرسون، فيحتاجون إلى مورد. لذلك كانوا يُعطَون أوقافاً، يوقفون خانات أو دكاكين أو مثلاً مطحنة أو أحياناً قرى قريبة من حلب مردودها كلها يعطى لمن يدرس ويدرّس في هذه الجوامع.
بهذا الشكل صار هناك إنشاء مبانٍ عديدة في الفترة العثمانية، ازدهرت حلب. ليس فقط هذا؛ كان ثمة أمر مهم جداً أنشأه العثمانيون بهذا الاتفاق الذي كان بين فرانسوا الأول ملك فرنسا وسليمان القانوني يسمونها اتفاقية الامتيازات. أعطوهم كي يشجّعوا الأجانب على أن يأتوا إلى سورية، إلى حلب خصوصاً، لأنها مدينة هامة تجارياً ولها أهميتها. سمحوا لهم بأن يقيموا في الخانات وسمحوا لهم بإقامة كنيسة خاصة بكل جماعة. وبهذا الشكل أتانا عام 1564 أول قنصل فرنسي في حلب، عام 1581 قنصل إنكليزي، عام 1697 قنصل هولندي. لكن قبل كل هؤلاء كان لهم دور. دولة البندقية كانت دولة مملكة قبل أن تصير إيطاليا.
غسان الشامي: سآتي إلى الخانات إذاً. لكي أستغلّ كل الوقت معك، سنذهب إلى خارج حلب. حلب مدينة على التراث الإنساني. ذكرت هذه الخانات، وضمن هذا التراث، هل وقف العالم مع هذا التراث الإنساني في حلب؟ في هذه الأزمة هل أحسست أنت كمتابع لهذا التراث بأن هناك مَن يدعم بقاء هذا التراث؟
عبد الله حجار: الواقع أنني أتألّم لأنه يحزّ في نفسي.. أنا أقولها بكل تواضع: أطالع في أحيان كثيرة كوني في جمعية العاديات وكان لي تواصل مع جامعة حلب والضيوف الذين يأتون من خارج حلب دائماً يزورون حلب كنت آخذهم وأريهم سواء حلب أو المدن المنسية القريبة من حلب. فمن الأشخاص الذين ذهبوا ورأوا، وهذا ما يؤلمني، جاء كما تعرفون ملك إسبانيا والملكة سوفيا، أتوا مرتين.
غسان الشامي: وأنت رافقتهم.
عبد الله حجار: وأنا رافقتها في فترة ما. أتألم. أتت في الوقت نفسه زوجة جورج بومبيدو وأخذتها وكنا في تدمر، وقدّم لها خالد الأسعد كتابيه … –رحمه الله–، تعرفون الطريقة التي انتهى بها في هذا الألم. هذه التي رأت هذه الأمور. جايمس بايكر أتى وزوجته عام 1999 وذهب وقابل الرئيس حافظ الأسد، وأخذت أنا زوجته وزوجة دمرجيان وأريناهم الجامع الأموي في دمشق وإلى آخره. كل هؤلاء الأشخاص الذين رأوا جوّنا.. رئيس جمهورية كولمبيا وسواه، من المجلس البريطاني وفد الصداقة البريطانية السورية، من مجلس العموم.
غسان الشامي: صمت القبور. هؤلاء كلهم صمت القبور.
عبد الله حجار: كل هؤلاء أتوا ورأوا وشرح لهم خالد الأسعد عام 2003 كيف اللغات الآرامية وكذا. كل الناس هؤلاء رأوا، كيف أن الرأي العام العالمي كلهم يطمسون هذا الأمر ويتفرّجون بعماء وبغباء خطة تُدبَّر، تموت، يقتلون التراث في حلب وفي سوريا.
غسان الشامي: للأسف. أنت عملت على قلعة سمعان العمودي. الصور الآتية منها بعد وجود هذا النوع من… لا أريد التسمية فعلاً. عملت على قورش. هذه المعالم الروحية الكبيرة في التاريخ الإنساني ماذا عنها؟
عبد الله حجار: الواقع أنه منذ زمن بعيد تمنّيت أن يكون هناك ما يشمل هذه المواقع ضمن التراث العالمي. وأخيراً تحقّق هذا الحلم. لكن بعد 15 آذار 2011، المؤامرة التي بدأت على سوريا، في 27 حزيران 2011 تسجّل اليونسكو ضمن قائمة التراث العالمي 37 قرية أثرية ضمن سبعة أو ثمانية متنزهات أثرية في محافظة حلب ومحافظة إدلب. من بينها تُذكر قلعة سمعان، براد وكيمار، قورش، خراب شمس، المشبّك، شيخ السليمان، وإلى آخره. وفي محافظة إدلب سرجيلّا، البارة، شنشراح، قلب لوزة، كركبيزة، هذه المواطئ الرائعة كلها دخلت في التراث العالمي، وفرحنا بشكل رائع.
غسان الشامي: دخلت اسميا على ما يبدو.
عبد الله حجار: هم أدخلوها بالإسم. ويتابع حالياً اليونسكو وجماعتنا، يعطيهم العافية، جماعة المديرية العامة للآثار والمتاحف، كل شهرين يقدّمون تقريراً عن المتضرّر جزئياً وبشكل كبير وإلى آخره، ويضعون الصوَر ويجمعونها. والعالم، حتى باولو ماتييه…
غسان الشامي: باولو ماتييه الذي اكتشف مدينة إيبلا.
عبد الله حجار: تل مرديخ وإيبلا. كان بمناسبة مرور 50 سنة على بدء التنقيب. عام 1964 بدأ، حتى عام 2014 50 سنة، وهو لم يعد يستطيع، تألّم، كان يعتبرها حياته. ليس لديه أولاد، فأولاده هي إيبلا. لا أحد يعمل موسمين. يأتي ثلاثة أشهر كاملة ويغيّر مجموعة الذين يعملون فيه ليعطي أكبر إنتاج. هذا الإنسان بألم حكى من هناك عبر Skype بهذه المناسبة عن الوضع المتألم له. كل هؤلاء الناس الموجودين، لكن للأسف الرأي العام العالمي لا يستطيع أن يؤثّر على عقول مَن بفكرهم الخطة التي وضعوها ليقتلوا سوريا تراثيا، وهذا ما يفعلونه.
غسان الشامي: سآتي إلى حلب والتنوير والنهضة، عصر النهضة العربية في نهاية القرن التاسع عشر. كيف تراها؟
شهداء حلب؟
عبد الله حجار: نحن دائماً نذكر شهداء السادس من أيار عام 1916 عندما علّق جمال باشا السفّاح المشانق في دمشق وبيروت واعتبرهم أحرار سوريا وإلى آخره. دائماً أقول لهم: نحن لدينا شهداء الفكر والحرية من حلب، لدينا ثلاثة أشخاص دائماً يجب أن يُذكروا، كانوا قبل شهداء السادس من أيار. واحد منهم هو رزق الله حسّون الذي يعتبرون أنه كان شيخ الصحافة العربية لأنه أسّس “مرآة الأحوال” وأصدرها عام 1855 في الآستانة أي اسطنبول. ولاحقاً اضطُهد، وكان يتحدّث بالعنصر العربي. وانهزم وذهب إلى لندن. ويذكر خير الدين الزركلي في كتابه الأعلام أنه سُمّم عن طريق مخابرات أو كذا تركية عثمانية في تلك الأيام. توفّى عام 1880. الشخص الثاني الذي نذكره، وهناك شارع موجود في العزيزية على اسمه، هو جبرائيل دلّال. وهذا كان خال اسطاك الحمصي الشاعر. أيضاً هذا الشخص ترجم قصيدة لـفولتير يضرب فيها بالسلطة الدينية والملكية. وكتب هذه القصيدة قبل 30 سنة من حين استلم السلطان عبد الحميد الحكم. راح مَن وشوش السلطان عبد الحميد أن هذا يقصدك بهذه القصيدة.
هو ترجمها ويترجم شعراً ما كتبه فولتير بلغته الفرنسية. فأخذوه وحبسوه، وبعد سنة وشهرين أي عام 1892 سُمّم، ومكتوب في الورقة “وفهمكم كفاية” وأعطوه لأهله ليدفنوه.
غسان الشامي: والثالث؟
عبد الله حجار: والثالث كان عبد الرحمن الكواكبي صاحب طبائع الاستبداد وأم القرى الذي يقول بالدور العربي الذي يجب أن يقود الدولة… عام 1902، أيضاً يقول حفيده إنه سُمّم في القاهرة. فهؤلاء هم شهداء الفكر والحرية قبل شهداء السادس من أيار.
غسان الشامي: سؤالي الأخير وبدقيقة: ماذا ترى في مستقبل حلب؟
عبد الله حجار: فعلاً نحن نظل نقول حلب الصمود على الرغم من كل الأمور التي مرّت بها. حين يعود السلام، وهذا ما نتمناه من كل قلبنا، يأتي العقل إلى هؤلاء الناس الذين إلى الآن يحرّكون هذا، يأتي العقل الصحيح ويصل أصحاب الحق في بلدنا إلى حقهم. هذا الشيء الذي قتلونا به، نتمنّى أن ترجع، ربما يعود كل شيء. ربما يأخذ عقوداً، يأخذ ثلاثة أو أربعة عقود، 30 أو 40 سنة، لكن حين نرى أمامنا الحرب العالمية الثانية لم تترك شيئاً في درزدن، في برلين، في وارسو، وعاد كل ما يمكن. لدينا صوَر. الوضع الحالي بمشروع الارتقاء بمدينة حلب القديمة الذي كانت تُجريه وكالة التعاون الألمانية، هناك صوَر لكل شيء. يمكن الآن أن نقارن، وحين توضع خطط وإمكانات العمل، والإرادة موجودة، والتمويل إن وُجد، ومشاريع صحيحة، يمكن لحلب أن تعود وتنهض. وهذا أملنا في المستقبل أن تعود حلب، وهي تبقى حيّة لن تموت أبداً بلادنا التي نحب.
غسان الشامي: شكراً. شعار عبد الله حجّار قول الشاعر الألماني غوته: “حياة بلا فائدة موت مبكر”. لقد أغنى حجّار مدينته المتألمة التي كما سمعتم يتألم على ما أصابها ويصيبها كل يوم، ومصرّ على أن يكون شاهداً على قيامتها. أغنى المكتبة وطالبي العلم عن حلب وما جاورها.
شكراً لحضوره في “أجراس المشرق”.
شكراً للزملاء في “الميادين”: الزميل جهاد نخلة مدير العمليات، الزميلان المصوّران جمال حيدر وغسان نجّار، وللزميلين في حلب خالد سكيف ورضا الباشا.
شكراً لكم على طيب متابعتكم.
ومن روح حلب:
سلام عليكم وسلام لكم.
رابط الحلقة