ساطع الحصري .. اسمه مصطفى ساطع الحصري
ولد في العام 1880ميلادية لأسرة حلبية مرموقة تقطن حي “بانقوسا” بحلب
هو الابن الثالث لمحمد هلال الحصري، الذي ينتمي إلى أسرة عريقة في عروبتها، كريمة في محتدها، انتقلت إلى حلب على يد الشريف أحمد بن إدريس الحسيني، الذي قدم إلى حلب من الحجاز في القرن التاسع الهجري 1472م.
كان والده محمد هلال الحصري، قد “تلقى أفضل ما أتيح من تعليم تقليدي، فتعلم العربية والشريعة في المدرسة الإسماعيلية بحلب، وقضى شطراً من شبابه في مصر، يدرس في الجامع الأزهر علوم الشريعة والعربية، ونال الإجازة على يد شيوخ مشهورين، وقد عاد إلى حلب، فعمل قاضياً في مختلف مدن الولاية، ونجح في الامتحانات الضرورية ليتأهل لمنصب رئيس محكمة الاستئناف في صنعاء.
ولكثرة تنقلات والده في أرجاء الإمبراطورية العثمانية، فإن تعليمه في مراحله الأولى لم يكن مستقراً وقد تركت هذه التنقلات آثاراً عميقة من الذكريات والانطباعات المتنوعة.
فقد قدر له، أن ينتقل – خلال السنوات الاثنتي عشرة الأولى من حياته- بين المدن التي عُيِّن فيها والده للقضاء، فمن صنعاء إلى طرابلس الغرب، إلى أضنة وأنقرة واستنبول، وكان خلالها يستكمل تعليمه من إخوته الكبار، فقد تعلم القراءة والكتابة باللغتين التركية والفرنسية إضافة إلى اللغة العربية التي أولاها اهتماماً خاصاً فيما بعد.
في العام 1892 ألحقه والده بالقسم الداخلي في المدرسة الملكية باستنبول “التي كانت في ذلك الحين إحدى بؤر الاختمار الفكري” فقد كانت مخصصة للتدريب الحديث في الإدارة العثمانية وقضى فيها سبع سنوات، كان لها أثرها العميق في حياته الفكرية، لعنايتها بالمعارف العلمية والأساليب التربوية الحديثة وكان بين مدرسيها أنصار متحمسون للإصلاحات وفق الأفكار الليبرالية الغربية، وعلى أفكار الفلسفة الوضعية الفرنسية والقومية الأوربية كما استحوذت على اهتمامه: الطريقة العلمانية في تدريس المسائل الاجتماعية.
وقد كان ولعه شديداً بالعلوم الرياضية والطبيعية في المرحلة العليا من دراسته، فقد أخذ يواصل نهاراً الدراسات المقررة. وينفق الليالي في الغوص في دنيا العلوم.
لم يكن اهتمامه بالعلوم الطبيعية اهتماماً أكاديمياً محضاً، وإنما كان يقترن بإيمانه العميق بأن نشر المعارف العلمية بين أوسع فئات الشعب، سيكون مقدمة ضرورية لإعادة تركيب الوعي الاجتماعي. الذي يجب أن يتقدم –في رأيه- على سائر الإصلاحات فلم يشأ بعد تخرجه بدرجة امتياز عام 1900. أن يشتغل بالوظائف الإدارية التي تخولها له شهادته. وإنما قدم طلباً لوزارة المعارف العثمانية لتعينه مدرساً للعلوم الطبيعية في المدارس الثانوية.
وقد تم له ما أراد، فالتحق بإعدادية مدينة يانينا –اليونانية حالياً- كمدرس للعلوم الطبيعية، حيث أمضى خمس سنوات أولى فيها مادته اهتماماً عظيماً متبعاً طرقاً مشوقة في تدريس مادته لقناعته بجدواها في توسيع الآفاق الفكرية، وكان “يؤكد أن العمل ليس مجرد واجب وطني. وإنما هو بهجة بحد ذاته، واندفع الشباب المشغوف بمربيه، يهب كل قواه للتعلم. أملاً في التعويض عما فات خلال عقود، وربما خلال قرون”.
أوغل عميقاً في العلوم الطبيعية بحثاً ودراسة واستقصاء وإضافة إلى طرق مبتكرة في التعليم، وقد أثمرت جهوده خمسة كتب في مجالات العلوم كان يعتمدها في التعليم، كما تقدم بها إلى وزارة المعارف فأقرتها في جميع مدارس السلطنة. وهي “معلومات زراعية” “دروس الأحياء” “علم الحيوان” “علم النبات” “التطبيقات الزراعية”.
ومع كل الحماس الذي أبداه في عمله أصيب بخيبة أمل كبيرة بعد أن اصطدم بمعوقات كبيرة حالت دون طموحاته العريضة، فقد ازدادت الأوضاع سوءاً. وازدادت الرقابة على المدارس والصحف التي كان يكتب فيها، وعلى الكتب التي كان يؤلفها على الرغم من تركيزه على القضايا العلمية والتربوية “وقد انعكس الجو الذي كان سائداً آنذاك في نظام التعليم العثماني في عبارة هاشم باشا وزير المعارف في عهد عبد الحميد الشهيرة “ما كان أحسن عمل الوزارة لو لم تكن هناك مدارس أبداً”.
كان ساطع الحصري يدرك المخاطر التي تعصف بالإمبراطورية العثمانية، من جراء الفساد المستشري في بنية الدولة ومؤسساتها. وسوء معالجة الأوضاع، إضافة إلى أطماع الدول الكبرى. فقد لمس عن قرب خلال السنوات التي أمضاها في أقصى الغرب من الإمبراطورية تلك النزاعات الدامية ودوافعها وأغراضها. “وكان ومعاصروه من شباب الدولة العثمانية المتنورين، يرون أن المساهمة النشطة في القيام بإصلاحات لتحديث البلاد والحفاظ على الجامعة العثمانية هما الأداة الوحيدة لدرء خطر الدول الكبرى الطامعة” بعد تدخلها في الشؤون الداخلية للدولة وفرض اتفاق “مورستيج” أخضعت من خلاله ولايات البلقان لنظام دولي خاص، وضعته روسيا والنمسا بالاتفاق مع الدول الكبرى، غير أنه لم يفقد الرغبة والأمل بالإصلاح، فتقدم بطلب إلى وزارة الداخلية يبدى فيه رغبته بالعمل في إحدى الولايات التي تدار باتفاقية مورستيج” فعين قائمقاماً في المنطقة الإيطالية في المنطقة النمساوية من الأشراف الدولي، واستمر في عمله هذا مدة سنتين حاول خلالهما القيام بالعديد من الأعمال الإصلاحية. ثم نقل بعد ترفيعه إلى قضاء فلورينا داخل المنطقة الإيطالية من الأشراف الدولي، وهناك “رأى شعوب البلقان تتقاتل فيما بينها حول قضايا قومية بظروف أشد من قتالها مع الأتراك، فاستخلص من ذلك:
أن فوارق اللغة والثقافة أعمق بين الأمم من فوارق الدين” وهكذا اشتد وعي ساطع الحصري بعمق الفكرة القومية في النفوس، هذه القوة القادرة المحركة في التاريخ” بعد ثماني سنوات قضاها في البلقان ساهمت في نمو وعيه السياسي والفكري، وفي هذه الأثناء حدثت ثورة 1908 بقيادة (الشبان الأتراك) أو ما عرف بـ (تركيا الفتاة) و (جمعية الاتحاد والترقي) وكان ساطع الحصري معجباً بآراء مدحت باشا الدستورية، وبشعارات التنوير التي أطلقتها الحركة ظناً منه أنها الحل الأمثل للإصلاح والنهوض وتحقيق فكرة الجامعة العثمانية التي تقف في وجه الأطماع الدولية، فعاد إلى العاصمة وتولى التعليم في معاهد عالية، وعاد إلى التأليف في مجالات التربية وعلم الاجتماع، كما عهد إليه بإدارة مدرسة (دار المعلمين) بالقسطنطينية فأعاد بناءها على أسس جديدة تتفق مع آخر إنجازات العلوم التربوية.. وراح يشيع بين التلاميذ مبادئ كانت غريبة على تركيا آنذاك، ومبادئ التعمق في التفكير والجدية في العمل، وصار نداؤه (العمل بدون فتور) أشبه بأنشودة تترنم بها شفاه كل تركي متعلم، كما قام بجولة في البلدان الأوربية للإطلاع على منجزات العلم والفكر والتربية.
زار جنيف ولوزان وزيورخ وباريس ولندن وبروكسل وميونخ وبرلين، واطلع على أحوال التعليم في مدارسها ودور معلميها وما يطبق منها من نظم تربوية جديرة بأن تحتذى” غير أنه سرعان ما اصطدم بسياسة التتريك والطغيان الاتحادي الذي فاق ما قبله، فبدأ اتصالاته مع العناصر العربية في جمعية المنتدى الأدبي، كما جاءت استقالته من منصب مدير (دار المعلمين) بعد سجال في الصحافة مع (ضيا كوك آلب) الدماغ المفكر للقومية التركية كان محط اهتمام إلانتلجنسيا العثمانية، وتحول –على حد تعبير مؤرخ تركي إلى واحد من أكثر معارك العصر إثارة وأبعدها صدى وجاءت جريمة جمال باشا السفاح لتضع حداً نهائياً للرابطة العثمانية التي كان يؤمن بها الكثيرون، لأن الذين لقوا حتفهم على أعواد المشانق كان ثمة أصدقاء مقربون له، ومنهم المؤمنون بالدعوة العثمانية مثل (عبد الكريم خليل) الذي اقتصر نشاطه في سنوات الحرب العالمية الأولى على المضمار التربوي، فغادر ساطع أرض الدولة التركية بعد انتهاء الحرب، لينضم إلى الركب القومي العربي رافضاً كل النداءات والإغراءات لبقائه في تركيا حينها كتب أحد الكتاب المشاهير من الأتراك في صحيفته (وقت) بعد أن غادر ساطع تركيا، كتب يقول: (اليوم شعرنا بانفصال سورية عنا) كان ساطع الحصري في التاسعة والثلاثين من العمر حين وصل إلى دمشق التي كانت تعيش أفراح قيام الدولة العربية بقيادة الأمير فيصل بن الحسين، وكانت شهرة الحصري قد سبقته إلى وطنه، فاستقبله الأمير فيصل قائلاً: (كلما كنت أقرأ لك وأسمع عنك كنت أتخيلك شيخاً متقدماً في السن، ولقد سررت جداً من مشاهدتك هكذا، من حسن حظ الأمة العربية، سيكون أمامك مجال واسع لتخدمها في حياتها الجديدة.
تركزت جهود ساطع الحصري في دمشق على تعريب التعليم بعد أن عين مديراً عاماً للمعارف، فقد فعلت سياسة التتريك فعلها، ولا بد من جعل اللغة العربية لغة رسمية في المدارس والدوائر والدواوين، وتم ذلك التحول بسرعة بعد أن أحدثت الحكومة العربية دورات خاصة للموظفين يتعلمون من خلالها الكتابة بالأسلوب العربي وألفت لجاناً مهمتها البحث في أمهات الكتب العربية ووثائق الحكومة المصرية لتثبيت مصطلحات عربية خالصة، كما تم إنشاء شعبة للترجمة والتأليف تتولى ترسيخ اللغة العربية ونقل العلوم الهامة من الثقافات الأخرى.
“واستعانت بأساتذة اللغة العربية وأدبائها من جميع أنحاء البلاد العربية”.
لقد وجد ساطع الحصري نفسه، فانكب بعمل دؤوب لا يعرف الكلل، على إصلاح التربية وإشادة مؤسساتها. فوسع أعمال ديوان المعارف وأحدث المجمع العلمي العربي وألحقه بالديوان. وأسند رئاسته إلى محمد كرد علي، وأعاد افتتاح المعهد الطبي ومدرسة الحقوق “وأحدث انقلاباً فكرياً تربوياً مصطبغاً بصبغة عربية خالصة تناسب ذلك العهد”. أصبح وزيراً للمعارف في أول حكومة عربية دستورية بدمشق، تعمل على قيام الدولة العربية الواحدة، لكن الطغيان كعادته بدأ يتربص بقيم الخير والأحلام الجميلة.
وما أن انتهت الحرب العالمية الأولى حتى أصبحت بريطانيا وفرنسا القوتين المؤثرتين اللتين تسيطران على الأوضاع في الشرق الأوسط والوطن العربي، وتقتسمان النفوذ حسب مصالحهما الاستعمارية، وبدت المنطقة العربية مكشوفة تماماً أمام الهيمنة الاستعمارية بلا نصير يناصرها داخلاً وخارجاً غير الحكومة العربية الوليدة في دمشق إلا التي لم يترك لها المجال للتنفس، وجيشها الناشئ الذي لم يستكمل بناءه، فما إن أعطى مؤتمر “سان ريمو” الحق لفرنسا بالانتداب على سورية ولبنان حتى تحرك الجيش الفرنسي لاحتلال البلدين وعلى مشارف دمشق جرت واحدة من أغرب المعارك، حين قرر وزير الدفاع يوسف العظمة أن لا يدخل الفرنسيون دمشق إلا على جثته، وبعد معركة يائسة وغير متكافئة أشهر سيفه وهجم على إحدى الدبابات الفرنسية وراح يهوي عليها بسيفه بينما كان رصاص رشاشها يمزق جسده.
ودخل الفرنسيون دمشق، وأمروا فيصلاً بمغادرة البلاد، فاصطحب معه وزيره ساطع الحصري حيث أقاما في روما عدة شهور يدبران أمور مقاومة المستعمرين والدفاع عن القضية العربية في المحافل الدولية.
وكان فيصل قد كلف أحد أبرع ضباطه بالتوجه بالمؤن والذخائر والأموال إلى الشيخ صالح العلي في شمالي البلاد وبدء المقاومة من هناك، وكان يتطلع إلى التعاون مع الأتاتوركيين في مواجهة أطماع الدولتين الاستعماريتين، وفي هذه الحالة تكون خطوط إمداد الثوار بالأسلحة والمقاتلين والمؤن قريبة ومضمونة، وقد أوفد وزيره ساطع الحصري لهذه الغاية “ولكنه علم- حين وصل إلى أرض الدولة التركية- أن الكماليين كانوا في ذلك الحين مغلوبين على أمرهم، وأنهم بدؤوا يسعون للتفاهم مع الفرنسيين، كي يتمكنوا من مقاومة الإنكليز”.
فعاد ساطع الحصري إلى إيطاليا وهناك كلفه فيصل بالاتصال بالأستاذ “بونفانتي” أستاذ الحقوق الدولية في روما، وتزويده بالوثائق والمعلومات اللازمة التي يحتاج إليها من أجل إعداد التقرير القانوني في القضية السورية، وقد أنهى مع الأستاذ “بونفانتي” التقرير المطلوب بعد جلسات طويلة.
وبعد أن استجاب فيصل لدعوة البريطانيين في التوجه إلى لندن توجه ساطع الحصري إلى القاهرة ليبدأ فصلاً مهماً من فصول حياته المثيرة، وكفاحه في سبيل قضية أمته ووحدتها، فقد لجأ إليها قبله جماعة من مجاهدي ميسلون، فشكوا إليه –كما لمس ذلك بنفسه- أن المصريين لا يؤمنون بالقضية العربية، ويستنكرون الثورة العربية ضد العثمانيين، وكان لهذه القضية مبرراتها يومئذ، فقد كشفت الثورة الروسية وثائق الاتفاقيات الغربية والمعاهدات السرية “سايكس بيكو” وسربوها إلى مصر، وقد توصل بعد تفكير إلى أن هذه المواقف “نتيجة طبيعية للانعزال المادي والمعنوي الناجم عن الظروف التاريخية، وأن هذه المواقف لا بد من أن تتغير وتزول بتغير ظروف الحياة الجديدة”.
وبما أن مصر سبقت البلدان العربية في مجالات التعليم باللغة العربية التي يعتبرها الحصري ركناً هاماً من أركان دعوته؛ فقد انصرف إلى دراسة النظم التربوية فيها، فتكشف له خلل اعتبره خطيراً وهو إهمال تدريس مادة التاريخ في المدارس الابتدائية وهو الذي يعتبره الركن الثاني من الأهمية في تكوين شخصية الأمة، وكذلك إهمال العلوم الطبيعية التي يعتبرها من العلوم التي تساعد على تفتح المدارك العقلية وتنمية القدرات، وقد علل ذلك في مذكراته: لأننا نحن الشرقيين ميالون إلى الخيالات والكلاميات بعوامل عديدة، أثرت –ولا تزال تؤثر- في تربيتنا منذ قرون، وهذا ما يجعلنا أشد افتقاراً من سوانا إلى العلوم التي تعدل هذا الميل فينا، وقد آثر –حرصاً على مصلحة مصر وحبها- أن يقدم للمسؤولين فيها اقتراحاته بخصوص ما يراه واجباً من إصلاحات.
أمضى الحصري عشرين عاماً في العراق، بعد أن درس قواعد النهضة التعليمية والثقافية وفجر النزوع القومي في أجياله، وقد سجل تجربته في كتابه الضخم بمجلديه والبالغ ألفاً ومئتين وخمسين صفحة، والذي استقينا منه هذه المعلومات.
استقر ساطع الحصري في بيروت مخلفاً وراءه في العراق مكتبته الخاصة، على غناها ووفرة مصادرها ومراجعها التي يحتاج إليها، والتي وصفت بأنها من أغنى المكتبات، كان يشعر بالمرارة لفقدها، خاصة بعد أن قرر إعادة الاعتبار لعالم الاجتماع العربي “ابن خلدون” الذي كان من أحب الشخصيات التاريخية إليه، وكان ابن خلدون قد تعرض لحملة ظالمة من الدارسين الغربيين والعرب على السواء، ففي خطبة ألقاها وزير المعارف العراقية على المعلمين العراقيين، دعا فيها “إلى نبش قبره وإحراق كتبه” لأنه نعت العرب بأوصاف تحقر من شأنهم، وقد كتب الحصري يومها عدة مقالات نشرها في العراق ولبنان، نفى هذه التهمة عن العلامة العربي الذي هاجمه لصوص البادية وقطاع الطرق في أسفاره. وذكر هذه الحوادث في مقدمته، وبين الحصري أن أوصاف العرب في المقدمة إنما تعني هؤلاء الأعراب الذين أثرت فيهم قسوة البادية ولم يعرفوا الحياة الحضرية، أما الغربيون ومن خلال تمركزهم ونكرانهم لجهود الآخرين الحضارية وتعاليهم على علوم الأقوام الأخرى فقد كانوا يقللون من شأن ابن خلدون كمؤسس لعلم الاجتماع، متهمينه بالجبرية، وقد فند الحصري هذه المزاعم الظالمة: “ففي بحثه المقدم إلى المؤتمر الخامس عشر لعلم الاجتماع –اسطنبول 1925- انتقد الحصري آراء الباحث الفرنسي “جاستون بوتول” الذي اتهم ابن خلدون بالجبرية بالاعتقاد أن الأمور في الطبيعة والمجتمع تحدث بحكم القضاء والقدر، وبتصديق الروايات التاريخية الشائعة بين عامة الناس”.
يعتبر الحصري: أن العرب المعاصرين مقصرون في حق ابن خلدون الذي يعتبر من أعظم المفكرين متأثرين بدعوات الشعوبيين الذين كانوا يهاجمون العرب تأسيساً على الفهم الخاطئ الذي ورد عند ابن خلدون، لذلك انكب على دراسة مقدمته دراسة مستفيضة ورائدة أثمرت كتاباً من جزئيين تحت عنوان “دراسات عن مقدمة ابن خلدون” وصفه الدكتور جميل صليبا بأنه، “قد أدى خدمة لذكرى مؤلفها العظيم، وأنه أثبت في دراساته النفسية: أن ابن خلدون هو مؤسس فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع معاً، وأنه جاء قبل عصره بأجيال، وأنه أول من عالج القضايا الاجتماعية بأسلوب علمي، وأول من تكلم عن أثر الحياة الاقتصادية في تطور التاريخ، وأول من قال بخضوع الحوادث الاجتماعية لروابط طبيعية ضرورية، وأول من تكلم عن الرابط الاجتماعي، وأوضح تكون الجماعات والدول وبحث عن طبائع الأمم وسجاياها” وبلغ من تقديره لابن خلدون أن سمى نجله باسمه، وكان من أحب الأسماء إليه ويشعر بالغبطة عندما ينادى “ابن خلدون”.
تسلم ساطع الحصري وظيفة مستشار لوزير المعارف. ومن ثم انهمك في دراسة كافة الشؤون المتعلقة بالتربية والتعليم والثقافة العامة والآثار، واتفق مع رئيس الوزراء آنئذ على توثيق وتنظيم العلاقات الثقافية ما بين سوريا والبلاد العربية لتحقيق الوحدة الثقافية التي كان يراها إحدى الخطوات نحو الوحدة الشاملة، وتعريب النظام التربوي تعريباً كاملاً. “واجتثاث ما علق به من شوائب الانتداب الفرنسي”.
وقد أجرى مشاورات عامة مع كافة العاملين والمهتمين بالتربية والشؤون الثقافية، في الليل والنهار إلى أن أنهى ستة عشر تقريراً في إصلاح التعليم، وصفت بأنها أحدثت دوياً في أرجاء الوطن العربي، استفرغ فيها جهده وخبرته، وظل في عمل دؤوب مدة ثلاث سنوات استكمل فيها مشروعه التعليمي، اعتبرها كامل عياد “عملاً جباراً كان له أعظم النتائج وأعمق الآثار في تطوير سورية وتقدمها الثقافي” إلا أن الفرنسيين الذين ناصبوه العداء من قبل، أثاروا ضده المتغربين والناقمين، وخرجت مظاهرات طلابية ترفع شعارات العداء لإصلاحاته فقرر الاستقالة من منصبه وغادر البلاد نحو بيروت ومن ثم القاهرة، التي وصلها في الخامس والعشرين من شهر شباط 1947.
تركزت جهود ساطع الحصري في القاهرة على استكمال منظومته الفكرية في القومية العربية حيث ألف أهم كتبه، وإلقاء محاضرات هامة في هذا الموضوع، والرد على دعاة الإقليمية والانعزالية. والنزعة الفرعونية، وغيرها من الحركات، إضافة إلى أعماله الوظيفية في الجامعة العربية ولجانها، وإدارته لمعهد البحوث والدراسات العربية العالية الذي أنشئ بمساعيه والعمل على إصدار حوليات الثقافة العربية التي جاءت في ستة مجلدات ضخمة في كل منها أكثر من خمسمائة صفحة، وهي شبه موسوعة تضم مجموعة من المعلومات والوثائق الأساسية عن أوضاع التعليم والاتجاهات الثقافية في مختلف أقطار الوطن العربي، وكان هدفه من هذه الحوليات، إزالة الفوارق الثقافية بين البلاد العربية، لأن الوحدة الثقافية والتربوية عنده مقدمة لا بد منها للوحدة العربية، كما كان يؤلمه، أن الثقافة في الوطن العربي “متنوعة تنوعاً شاذاً” وبصورة خاصة تلك الأقطار التي كانت ترزح تحت نير الاحتلال ومن خلال هيمنته، يوجه الثقافة والتربية وجهة تخدم مصالحه على حساب المصلحة العليا للأمة العربية، وبالتالي فإن نظم التعليم واتجاهات الثقافة في تلك الأقطار، لم تكن نتاج طبيعة البلاد الأصلية، إنما كانت من نتاج السياسات الأجنبية المسيطرة. وأن المصلحة العربية تقتضي إزالة كافة الفوارق الثقافية والتعليمية، وأن نهوض الثقافة وتوحيد النظم التربوية المنتجة للثقافة سيؤدي بالضرورة إلى توحيد الأمة.
ساهم في إنشاء متحف الثقافة العربية، ومهمة المتحف عنده: إظهار الفروق القائمة بين نظم التعليم ومنهاج الدراسة في مختلف البلاد العربية، للسعي من أجل إزالة تلك الفروق. لتستفيد الدول العربية من تجارب بعضها من هذه الميادين.
أما عن المحاضرات التي ألقاها بالقاهرة، فقد اعتبرت “فتحاً بيناً في تاريخ الدعوة القومية في مصر” التي تنبأ لها منذ الثلاثينات بأنها ستكون الرائدة والقائدة في هذا المجال وإن تأخرها من وجهة نظره التي تعتمد اللغة والتاريخ أهم عاملين في تكوين الأمة. ومما لا شك فيه أن مصر كانت سباقة في تعريب التعليم، أما من حيث التاريخ وتأخر فاعليته، فيعود لما كان يدرس في المدارس الثانوية والعالية “كان الاهتمام ينحصر بدورين من تاريخ مصر، في البداية تاريخ المصريين القدماء وفي النهاية تاريخ أسرة محمد علي، وأما ما حدث في مصر بين هذين التاريخيين، فكان يهمل إهمالاً غريباً”.
كان في الثامنة والثمانين من عمره حين وضع لنفسه خطة عمل يستكمل فيها تسجيل تجربته الطويلة بثلاثة كتب عن مذكراته في تركيا وسورية ومصر، غير أن القدر لم يمهله فاختاره الله إلى جواره في الأيام الأخيرة من العام 1968.
وبرحيله فقدت الأمة العربية واحداً من أخلص أبنائها أمضى عمره المديد في خدمة قضاياها بعزيمة لا تلين، ولا تعرف الكلل واليأس.
– المصدر : بقلم باسل الحمصي